مقال الدكتور احسان الشمري في قراءة في الرؤية الخليجية للأمن الاقليمي… (الاسباب ، الاهداف ، القدرة)

بصرياثا نيوز / BSN

كشفت وزارة الخارجية السعودية أن المجلس الوزاري الخليجي خلص خلال دورته الأخيرة الـ 158 التي عقدت في الرياض في 3  كانون الاول / ديسمبر 2023  ، إلى رؤية خليجية موحدة للأمن الإقليمي أكدت التسمك بـ “حل الخلافات عبر التفاوض والحوار، وتكثيف الجهود لتجنيب المنطقة تداعيات الحروب “.واشارت الوثيقة التي نشرت “الخارجية السعودية” ملخصاً منها إلى أن الرؤية تضمنت كذلك “تكثيف جهود الحفاظ على منظومة عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتعزيز جهود مكافحة الإرهاب والتطرف بجميع أشكاله ومظاهره، وتجفيف منابعه ومحاصرة تمويله “، وتعزيز مبادئ التعايش والاحترام المتبادل مع دول العالم”.
بادئ القول ، ان الامن الاقليمي هو مفهوم وسيط بين الامن العالمي والامن الوطني ، ومنح ميثاق الامم المتحدة اهمية خاصة له عندما خصص الفصل الثامن منه عن كيفية عمله وتكامله مع الامن العالمي، ووجدت نظريات عديدة حول هذا المفهوم الذي اخذ طريقه نحو التطبيق من خلال محاولات من المنظمات الاقليمية هي منظمة الاسيان والاتحاد الاوربي والاتحاد الافريقي وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي .
يشير المنظور الجيو- سياسي لأمن الخليج على نحو مبدئي إلى مقاربة تفاعلاته بما هو أمن إقليمي، يُعنى بمجموعة من الدول المتجاورة جغرافيًا، كما يمكن أن يتسع هذا المنظور ليشير إلى الأثر الذي تتركه سياسات إقليمية ودولية أوسع مدى.

هناك ثماني دول على شاطئ الخليج العربي، هي دول مجلس التعاون الخليجي الست والعراق وإيران، إلا أن تقسيم الخليج ظل يميل على نحو تقليدي إنه تقسيمًا ثلاثيًا، بين شمال يُمثله العراق، وشرق تُمثله إيران، وغرب يتجسد في الدول الستة المشكّلة لمجلس التعاون لدول الخليج العربي الذي تأسس عام 1981،
وقد تشكلت دول الإقليم الثماني في مراحل تاريخية متفاوتة، وشهد مطلع العقد السابع من القرن العشرين اكتمال عملية استقلال هذه الدول، ومنذ أن بدأ الحديث عن وجود نظام إقليمي خليجي، لم يشهد تفاعلا جديا مع مضمونه التعاوني، بل ظل البعد الصراعي مهيمنًا عليها، كما شهد الإقليم ثلاثة حروب في الفترة بين عامي 1980 – 2003.
عرف النظام الإقليمي الخليجي في بعض مراحل تطوّره شكلاً غير مستقر من توازن القوى المحلي، كان يبدو فيه العراق موازنًا لإيران، أما اليوم فإن هذا النظام يفتقر لوجود نظام محلي مشترك للأمن يمكن التعويل عليه في حل النزاعات القائمة أو السيطرة عليها، وبالتالي الحيلولة دون  تحولها إلى صراعات عسكرية مباشرة ، فالمنطقة تحتاج إلى خلق بيئة أمنية آمنة تشكل بديلا للواقع القائم.
ان هناك سبعة سمات رئيسية للبيئة الراهنة للأمن الاقليمي في الخليج العربي :
1. غياب توازن القوى المحلي أو التوازن الاستراتيجي، الذي طبعها على نحو نسبي، في العقدين السابع والثامن من القرن العشرين. وانتهى بعد حرب الخليج الثانية، حيث تلاشت القوة العراقية، التي كان يُنظر إليها باعتبارها ثقلاً موازنًا للقوة الإيرانية.
2. استمرار بعض النزاعات التاريخية، التي لا تزال حاضرة، حول المياه والحدود، والمناطق والآبار النفطية، بل وحتى الحقول والبساتين، فضلا عن نزاعات بشأن السيادة، بين إيران والعراق، وبين إيران وبين عدد من دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي، وكذلك بين العراق والكويت، على الرغم من ترسيم الحدود بينهما ؛ كما انتقلت بعض دول الإقليم إلى سياسة الحدود المسيّجة فيما بينها، الأمر الذي يشير إلى نمط جديد من التحديات التي تواجهها المنطقة.
3. سباق التسلّح غير المُعلَن، بين إيران وبعض دول مجلس التعاون الخليجي.
4. الوجود العسكري للولايات المتحدة الأميركية، المتقدم كمًا ونوعًا، والذي يُراد له موازنة القوة الإيرانية، واحتواء نفوذها ومواجهتها.
5. ظاهرة العنف العابر للحدود بين الدول، والذي تجسده في المرحلة الحالية جماعات تصنَّف بما يعرف بجماعات الإسلام السياسي الحليفة لايران ، ويعاني من هذه الظاهرة -بصفة أساسية- العراق، الذي اقترب في لحظة ما من الانجرار إلى حرب أهلية شاملة.
6. غياب أي نظام أو تنظيم أمني مشترك -على مستوى الدول الثماني- المشكلة للإقليم ، الأمر الذي يعني غياب التفاهمات والآليات القادرة على حل الخلافات القائمة، أو محاصرتها ومنع امتدادها باتجاه يقود إلى مزيد من الاحتدام السياسي.
7. التوترات المستمرة والاحتمال الدائم بوقوع الحرب، و خاصة في ظل تفاقم الاوضاع بين إيران من جهة، وكل من إسرائيل والغرب من جهة أخرى، وبذلك يمكن القول أن البيئة الأمنية في الخليج انتقلت من حالة “اللاحرب واللاسلم”، إلى حالة “التصادم الوشيكة”.
تواجه منطقة الخليج العربي تحديات خارجية خطيرة ، تتزامن مع تطورات إقليمية ودولية متسارعة، اذ تشهد المنطقة تحولات مهمة في التحالفات، بينما تتزايد الشكوك بشأن مدى الالتزام الأمريكي بالحفاظ على أمن المنطقة مع تزايد وربما تحول الاهتمام إلى منطقة الإندو- باسيفيك لتعزيز المواجهة أو التنافس الاقتصادي مع الصين؛ وعدم التوصل بعد إلى حل للملف النووي الإيراني يرضي مختلف الأطراف الإقليمية، فضلاً عن استمرار حالة عدم الاستقرار في عدد من دول الجوار الإقليمي، ومن الملاحظ أن فقدان الاستقرار السياسي في بعض دول الإقليم، مقروناً بتغير اتجاهات الموقف الأمريكي وجديته في الاهتمام بأمن المنطقة تسبب في شكوك متزايدة حول استعداد الولايات المتحدة للتعاون في إيجاد نظام أمني إقليمي من شأنه مراعاة المصالح الجوهرية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وتأمينها؛ وهو ما يستدعي تنويع التحالفات، مع المحافظة في الوقت نفسه، على العلاقات التاريخية مع الولايات المتحدة الامريكية ، وفضلا عن ذلك، فإن تصاعد دور التنظيمات الإسلامية، وحالة عدم اليقين في مرحلة ما بعد ما سمي “الربيع العربي”، في بعض الدول وعدم الاستقرار في اليمن، تشكل عوامل أدت إلى تعميق مخاوف دول مجلس التعاون بشأن عدم الاستقرار المستقبلي في المنطقة.
ان هناك عدد من التهديدات الإقليمية التي تواجه دول الخليج العربي وتمثل في مجملها مصادر قلق حقيقي وعوامل عدم استقرار؛ ولعل من أبرزها هي إيران، والصراعات الإقليمية المستمرة ، وحرب اليمن، والتطرف والإرهاب.
1. إيران وسياستها المهددة للاستقرار الإقليمي :
تمثل إيران واذرعها المسلحة في الدول العربية حد أهم التحديات التي تواجه دول الخليج والمنطقة العربية عموماً وذلك بسبب سلوكها المهدد للاستقرار في المنطقة؛ حيث تتدخل في الشؤون الداخلية للعديد من الدول بل وتعد عاملاً من عوامل تفاقم المشكلات الأخرى فيها؛ ومنها على سبيل المثال الأزمات في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
فالنفوذ الإيراني في العراق بات بارز جداً؛ وبفضله تمكنت إيران من التمدد وتوسيع نفوذها في مناطق أخرى في المنطقة أيضاً، وذلك بحكم ثقل العراق السياسي والاقتصادي وموقعه الجغرافي والأهم دوره بوصفه قوة توازن إقليمي ليس مع إيران فقط، وإنما مع الدول الإقليمية الأخرى التي تسعى إلى التوسع على حساب المصالح العربية. ولهذا فإن عراق ما بعد الغزو ومستقبله السياسي في التكامل أو الانقسام يؤثر في الأمن الإقليمي وتصورات التهديد لدول الخليج والمنطقة برمتها، ولا سيما بما يتعلق منها بمسألتي الانقسامات الطائفية والاصطفاف مع إيران.
لقد كانت للحرب التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق في عام 2003 ، تداعيات بعيدة المدى على أمن المنطقة العربية ، اذ أدى غزو العراق إلى توسيع المصالح الأمنية والعسكرية الإيرانية، ولم يعد العراق قادراً على الاستمرار بوصفه موازي لإيران وبالتالي اختل التوازن العسكري وانحرف لصالح إيران، ما شكل تحدياً حقيقياً لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والمنطقة برمتها ، هذا التحدي اصبح يتعاظم مع امتلاك إيران قدرات عسكرية تقليدية وكيماوية وبيولوجية متطورة.
سيطر على الخطابين الإقليمي والدولي بشأن العراق وتحليلُ آثار ذلك الغزو الجيوسياسية والاستراتيجية المخلة بتوازن القوى الإقليمي، لذلك فإن إضعاف العراق أثر في التوازن الإقليمي الذي أصبح في صالح إيران، اذ هيمنت على العراق وأصبح لها اليد الطولى في البلاد، وهذا ما أصبح مصدر قلق رئيسياً ليس لدول مجلس التعاون الخليجي فقط، وإنما للمنطقة برمتها أيضاً، عززه استخدام إيران لورقة الطائفية في مجال التعبئة السياسية التي تمكّنها من التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، اذ ان المشكلة الطائفية تمثل أحد المخاطر المحدقة بأمن العديد من هذه الدول؛ لأن توظيفها يؤدي إلى الاستقطابات السياسية التي قد تساعد إيران على المُضي قُدماً في تنفيذ طموحاتها لتوسيع نفوذها الإقليمي، ولذلك اتبعت إيران سياسة علنية لزعزعة الاستقرار الاقليمي في الخليج، كما انها لا تزال منذ عام 1971 تتمسك باحتلال ثلاث جزر تابعة لدولة الإمارات العربية المتحدة، وبهذه السلوكيات رسخت السياسات الإقليمية الإيرانية الصورة العدائية لإيران.
إن دول الخليج تنظر إلى تصاعد القوة الإيرانية من أكثر من منظور سياسي، بمعنى أن قلق دول المنطقة الرئيسي لا يتمثل في امتلاك إيران القوة العسكرية فقط أو حتى أسلحة نووية، التي ستكون بالطبع أمراً كارثياً للمنطقة والعالم؛ بل تخشى من أن يشجع امتلاك إيران هذه الأسلحة على المضي قُدُماً في سياسة التدخل في شؤون الدول الداخلية وتعزيز نفوذها في العراق ولبنان واليمن وفلسطين ومناطق أخرى، وفضلا إلى ذلك، أثبتت أحداث ما سمي احداث “الربيع العربي” أن مخاوف دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية من إيران ثابتة في التفكير الاستراتيجي والأمني لصنّاع القرار السياسي في الخليج، اذ وجدت إيران فرصة سانحة لزيادة نفوذها وتأثيرها عبر تدخلها في سوريا عام 2012 الذي أثار القلق في المنطقة عموماً ، لأن هذا التوغل ينذر باستمرار طموحات إيران في الهيمنة الإقليمية، وبذلك فإن التدخل العسكري الإيراني في سوريا واليمن، علاوة على العراق، يُظهر أن إيران تسعى إلى تحقيق الهيمنة الإقليمية التي تهدد الاستقرار في منطقة الخليج.
2. الصراعات الإقليمية المسلحة :
تمثل الصراعات التي تعيشها المنطقة تحديات خطرة لدول الخليج العربية ولأمن المنطقة كلها ، ومظاهر هذه التحديات التي أثارتها هذه الصراعات متعددة ، فقد تسببت في مآسٍ إنسانية كبرى وأسهمت في تفشي ظاهرة التطرف والإرهاب، بينما خلقت شرخاً في العلاقات بين دول المنطقة، ولا سيما العربية منها، وأحدثت استقطاباً إقليمياً مع انخراط العديد من القوى الخارجية في هذه الأزمات ، ما أثر سلباً في علاقات التعاون بل وأحدث خللاً في موازين القوى الإقليمية كلها.
وعلى الرغم من تراجع حدة هذه الصراعات، ولا سيما في سوريا وليبيا إلى حد ما فما زالت حالة عدم الاستقرار التي تشهدها هذه الدول تشكل تحدياً لأمن الدول الخليجية ، فرغم الهدوء الذي تحقق بين الأطراف المتصارعة في تلك الدول ، فإن عدم التوصل إلى تسويات سلمية نهائية لهذه الصراعات يمثل مصدر قلق ليس لدول الخليج العربي فقط، وإنما للمنطقة كلها أيضاً، اذ يمكن أن يتجدد الصراع في أي وقت ولا سيما في حالة ليبيا التي تعاني صراعاً على السلطة ونفوذاً كبيراً للعديد من الجماعات المسلحة ،ولكن يبقى الصراع اليمني من بين هذه الصراعات كلها هو الأكثر تأثيراً وارتباطاً بالأمن الخليجي.
3. حرب اليمن واثرها على الامن الاقليمي للخليج العربي :
لليمن أهمية استراتيجية وحيوية حيث تقع على مضيق باب المندب مباشرة عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وبالتالي فقد شكلت اليمن باستمرار حجر الزاوية في السياسة الخارجية لدول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية ، ولهذا فان سيطرة الحوثيين على السلطة عام 2015 من قِبل مجموعة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بإيران اثارت قلقاً دولياً وإقليمياً كبيراً، اذ مثلت سيطرة الحوثيين على السلطة بالنسبة إلى دول الخليج  خطاً أحمر فهي تهديد دائم لحدودهم الجنوبية، ما يتطلب تنسيق الجهود لمواجهة مثل هذا التهديد، ولذلك يمكن تخفيف شدة المخاوف إذا ما توصلت مختلف الأطراف ذات العلاقة إلى تفاهم على أن حكومة صنعاء ستبقى في أيادي صديقة، وستكون حدود السعودية والدول الأخرى في المنطقة آمنة، ولن يهدد الإيرانيون أو وكلاؤهم مصالح هذه الدول في اليمن.
أن تنظيم الدولة الاسلامية (داعش)  على الرغم تراجعه بعد الضربات التي تعرض لها من دول التحالف والولايات المتحدة، فإنه ما زال يشكل تهديداً كبيراً لاستقرار اليمن وإلى حد كبير أمن دول مجلس التعاون ، فتفاقم خطر الإرهاب في اليمن قد يؤدي إلى شن هجمات ضد المنشآت النفطية في الخليج وناقلات النفط والمصالح الدولية في المنطقة على نحو ما حدث، مؤخراً، في السعودية والإمارات، بينما ترى إيران في اليمن على أنه مصلحة استراتيجية لتعزيز مكانتها في المنطقة مقابل منافسيها الإقليميين والدوليين، لذلك، تلعب إيران دوراً سلبياً في اليمن بالاعتماد على القوة الصلبة وإقامة شراكة مع جهات غير حكومية مثل: “حزب الله” و”الحوثيين” لتغيير ميزان القوى لتعزيز نفوذها في اليمن ومنطقة الخليج كلها، وهذا بلا شك يثير المخاوف بشأن تأثير الدور الإيراني في اليمن على الأمن الإقليمي.
تستقطب إيران بعض الجماعات المسلحة والميليشيات والفصائل من الأيديولوجية نفسها لتعزيز الانقسام وعدم الاستقرار من أجل تعديل السياسات الإقليمية وتوازن القوى؛ لذلك تهدف إيران في اليمن إلى دعم الجماعات التي تعمل لصالحها بالوكالة كي تمكنها من السيطرة على اليمن وتوسيع نفوذها هناك، ومن الواضح أن هذه السياسات قد أدت إلى تضخيم التطرف والتنظيمات الإرهابية في المنطقة.
4.التهديدات اللا متماثلة والتطرف والإرهاب الدولي:
ان التهديدات اللا متماثلة التي تسمى “غير المتناظرة” أو “غير المتكافئة” أيضاً، هي التهديدات المبنية على الغموض وصعوبة إمكانية تحديد طبيعة العدو، وتكون بين أطراف غير متكافئة؛ وتشمل الإرهاب العابر للحدود والجريمة المنظمة ، والقرصنة. والتهديدات الواقعية لدول مجلس التعاون على الملاحة التجارية في الخليج العربي.
ويمثل التطرف أحد أهم التحديات بل والتهديدات التي تواجه أمن الخليج والمنطقة برمتها، ورغم تراجع خطر المنظمات الإرهابية لا سيما بعد هزيمة تنظيم داعش في العراق وسوريا، وتحجيم تنظيم القاعدة في اليمن ومناطق أخرى في الشرق الأوسط، فإن هذا الخطر لا يزال قائماً ويمثل تهديداً فعلياً، لا سيما أن جذوره والعديد من الأسباب التي تغذيه ما زالت قائمة، ويرتبط به التطرف الديني ارتباطا وثيقا ، الذي ما زال قائماً رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها العديد من الدول للحد والتخلص من هذه الظاهرة.
وتكمن صعوبة التعامل مع هذا التحدي في صعوبة السيطرة على الوسائل التي تسهم في نشره وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، وما يزيد من خطورة هذه الظواهر هو انتشار ظاهرة ما يسمى الذئاب المنفردة، هذه الذئاب التي ليس من السهل التعرف عليها ومن ثم ملاحقتها ، وهناك أمر آخر يرتبط بهذه الظاهرة وهو استغلالها من قِبل قوى، وربما دول، لتحقيق أجندات سياسية معينة، ما يزيد من صعوبة التعامل مع هذه الظاهرة ويضعف جهود مكافحتها.
أن علاقات التحالف مع الولايات المتحدة أسهمت بشكل كبير في تعزيز جهود دول الخليج لضمان الأمن الإقليمي في المنطقة، ولكن استراتيجية الاعتماد على حليف واحد في عالم يتجه نحو تعددية قطبية تبدو احيانا غير عملية، كما أن الاعتماد على قوى خارجية لضمان الأمن والاستقرار الإقليميين أثبت أنه غير فعال دائماً ، ولهذا فإن هناك حاجة إلى جهود أكثر استقلالية وفعّالية، ويمكن الإشارة هنا إلى بعض النقاط المهمة التي ينبغي لدول الخليج العربية الاهتمام بها:
1. تعزيز الأمن الجماعي:
لا شك أن الأمن الجماعي أساسي لمواجهة التحديات التي تواجه دول المجلس، وقد أدركت قيادات هذه الدول أهمية تكوين استراتيجية أمن دفاعي مشترك، وعملت على تعزيز هذا الجانب، اذ أن قرار دول الخليج تشكيل قوة عسكرية مشتركة، التي أعلن عنها في قمة الرياض عام 2019، كان تحولا مهماً ويمثل دليلا على ضرورة العمل معاً في إطار المجلس، وتجنب انعكاسات أي اضطرابات محتملة إلا بالتنسيق المشترك الذي من شأنه الحيلولة دون تصاعد التهديدات التي تواجه نظام الأمن الجماعي الخليجي.
2. تنويع الشراكات وبناء التحالفات:
أن علاقات التحالف التاريخي الخليجي مع الولايات المتحدة الأمريكية تمثل ركيزة أساسية في تحقيق الاستقرار الإقليمي ، ولكن مع تراجع الدور الأمريكي الذي رافقه ضعف في التزامات التحالف، فإن هناك حاجة ماسة إلى تنويع العلاقات بل والتحالفات العسكرية أيضاً، لا سيما مع الدول الصاعدة كالصين وروسيا، ولكن من دون التضحية بالعلاقات التاريخية مع الولايات المتحدة، على ان يجري تعزيز العلاقات مع هذه الدول، مع المحافظة على الروابط مع الغرب عموماً، وخاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وعلى نحو أخَصّ الولايات المتحدة التي تبقى القوة الأكبر في العالم، والمحافظة على علاقات تحالف قوية معها تخدم مصالح الخليج والمنطقة، مع الاخذ بنظر الاعتبار أن تكون هناك  محافظة على التوازن في هذه العلاقات.

لقد استندت الاستراتيجية التي تعاملت فيها دول مجلس التعاون الخليجي، على مدار العقود الماضية مع التحديات والتهديدات التي واجهتها بشكل رئيس، إلى علاقات التحالف مع الولايات المتحدة الامريكية ، ولا شك أن هذه الاستراتيجية أسهمت بشكل كبير في المحافظة على الاستقرار الإقليمي بشكل عام ، ولكن طبيعة التحديات القائمة والتعقيدات المحيطة بها، وتزامنها مع تشابك المصالح وتنامي الاعتماد المتبادل بشكل غير مسبوق، والتحولات الجارية في البيئتين الإقليمية والدولية، وخاصة في ظل تراجع الدور الأمريكي ، يتطلب إعادة النظر في استراتيجيات تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، وهذا يفرض السير في مسارين اساسيين: الأول تعزيز الأمن الجماعي على مستوى دول المجلس، وتعزيز التحالفات الإقليمية مع الدول التي تشارك هذه الدول الرؤى نفسها تجاه التحديات وطرق التعامل معها، أما المسار الثاني فهو تنويع التحالفات في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، الذي شأنه أن يعزز من دور دول مجلس التعاون الخليجي في تحقيق الاستقرار ويزيد من قدرتها على الدفع بنظام إقليمي جديد تتولى فيه دول المنطقة أمنها أكثر من اعتمادها على قوى وتحالفات من خارجها.
ينبغي التأكيد على أن دول مجلس التعاون الخليجي تلعب دوراً مهماً في الحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة وقدمت مقاربات مختلفة لحل المشكلات وإحداث التنمية في الشرق الأوسط، وهذا الدور يتطلب استمرار الدعم للأمن والاستقرار في هذه الدول ذات الأهمية الجيو- استراتيجية والاقتصادية الحيوية في منطقة تتسم بتعقيد مشكلاتها الاساسية وتغير أو تقلب معادلة الأمن وميزان القوى فيها.
إن نظام الأمن المنسق يتسع لمجموعة واسعة من الخيارات، يشير حدها الأدنى إلى تنسيق دول الإقليم لسياساتها الخاصة بالتعامل مع عدد من الأخطار والتهديدات المشتركة، بدءًا من الجريمة المنظمة وأمن الحدود، وصولاً إلى الأزمات المستوطنة، التي قد تفجر نزاعات مسلحة ، وهذا الحد الأدنى هو الممكن الخليجي من هذا النظام الأمني.

إن هذا النظام الأمني -في حده الأدنى- يمكن إنجازه مبدئيًا عبر أربع مراحل، على النحو التالي:

   في المرحلة الأولى: يجب تشخيص الصراعات والأزمات والتهديدات الأكثر تأثيرًا على الأمن الإقليمي، وبعد ذلك توضع معايير لقياس درجة خطورة كل منها.

   وفي المرحلة الثانية: يجري العمل على بلورة خيارات للتعامل برؤية موحدة مع الأخطار المشتركة، ذات الطبيعة غير السياسية أو العسكرية، مثل امن الحدود الجريمة المنظمة والتهريب، ويمكن أن يكون التعامل مع هذه التحديات بصورة أحادية أو ثنائية أوعلى نحو جماعي.

   وفي المرحلة الثالثة: يجري الانتقال لبحث قضايا الأمن الملاحي، والممرات البحرية الاقليمية الإستراتيجية والخروج بتصورات مشتركة حول سبل التعامل معها، أحاديًا أو ثنائيًا أو على نحو جماعي.

    وفي المرحلة الرابعة: يجري العمل على بلورة مقترحات لحل، أو تجميد الصراعات والأزمات ذات المنشأ التاريخي ووضع رؤية مشتركة لها ، وفي حالة تعذر ذلك، يجري تشكيل فرق متابعة، تكون مهمتها الاستمرار في البحث عن مزيد من التصورات، وتقريب وجهات النظر المختلفة، ووضع مقاربات سياسية وقانونية تدفع بهذا الاتجاه، وفي غضون ذلك أو لنقل بداية، يجري التأكيد على الالتزام بمبادئ حسن الجوار، والقانون الدولي، وعدم اللجوء للقوة، أو التحريض عليها.

إن فلسفة نظام الأمن المنسق في حدوده الدنيا، لا تتعلق بالخيارات الدفاعية والأمنية المعتَمَدة على الصُّعد المحلية من قِبَل الدول الداخلة في هذا النظام، كما أن هذه الفلسفة غير ذات صلة بنمط الخيارات والتحالفات الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي وهي لا تشير إلى انشاء هياكل ومؤسسات أمنية إقليمية النطاق.
إن هذا التصوّر لنظام الأمن الإقليمي، يمثل الحد الأدنى الممكن، تبعا للظروف الحرجة لهذه المنطقة. بيد أنه حد ضروري وحيوي، ولا مناص منه ، لإبعاد شبح النزاعات المسلحة، والهواجس المتبادلة، والتجاذبات السياسية الضارة بفرص ايجاد الوئام الإقليمي اذ إن الحد الأدنى من التعاون والتنسيق هو البديل الضروري عن حالة الفراغ، الذي تملأه التوترات والنزاعات الدائمة او المستحدثة ، وهذ الحكمة التي استندت إليها جميع مفاهيم الأمن الإقليمي ومناهجه المعروفة.

زر الذهاب إلى الأعلى